Insane
كيف واجهت الثقافة ما يجري من أحداث في بلادنا، وهي مؤامرة تستهدف وجودنا العام وثقافتنا القومية التي عملنا من أجلها أكثر من نصف قرن، وكان عليها تأكيد حضورها الآن، والمواجهة بسلاحها الفكري الذي لا يقل أهمية عن العسكري، والاقتصادي، والاجتماعي، وما عرفناه أنها أفرزت الأدب والشعر والسينما والمسرح، وعملنا لأجلها جميعاً، فلماذا لم تظهر آثارها؟ ولم يكن للشعر أي حضور يذكر، وكذلك للمثقف، وعلينا أن نميز بين الإعلام كوسيلة انتشار واسعة، خاصة التلفاز، وبين دور المثقف في الشارع، وحراكه الفكري دفاعاً عن مبادئ حملها وآمن بها وعمل لها وبرز من خلالها. المحاضرات والندوات لوحظت في الآونة الأخيرة حركة محاضرات تبنتها المنظمات الشعبية، استضافت وجوهاً أصبحت معروفة في الشارع السوري من خلال تكرار ظهورها على الشاشة، ومع التقدير الكبير للخط الوطني الذي يحمله هؤلاء وهم يحللون ويكشفون ويطرحون الآراء لكن عملهم هذا الذي نقل إلى صالة دار الأسد للثقافة في اللاذقية تحول إلى محاضرة تلقى في المكان ويحضرها جمهور معين ينتمي لتلك المنظمة أو تلك، وتجري مناقشات مكررة لأن نسبة كبيرة جداً من الحضور يعرفون جيداً ماذا يدور، وما دور المحاضر هنا إلاّ تكرار ما قاله على الشاشة التي شدتنا جميعاً ونحن نتابع مجريات الأحداث بقلق على الوطن وحياته وأمنه واستقراره، ولأن الثقافة حراك اجتماعي الأجدى أن تنزل إلى الشارع في مثل هذه الأوقات الحرجة، وأن يؤكد المثقف دوره بين الجماهير وليس عبر المنابر الرسمية التي اعتدنا عليها سابقاً، ولم تحقق لنا إلا الأضواء الإعلامية فقط، والمطلوب الآن حراك من نوع آخر، أن يتواجد المثقف في الأماكن التي تحتاجه فعلاً، عند الناس الذين يريدون المعرفة، وبين هؤلاء الجهلة الذين أغراهم المال، والسلاح، وانضموا إلى جوقة الشغب متظاهرين من أجل الحرية وهم لا يعرفون ماذا تعني، ورفع حالة الطوارئ، وقد لفظها الكثير منهم (الطوارق) وبعدها إسقاط النظام، وهم لا يملكون أي برنامج، وليس لهم هدف في إسقاطه سوى ترديد ما يقال لهم عبر الآلة التي تحركهم وهم يردّدون كما الببغاء، والسؤال.. ما هو دور المثقف السوري في الأحداث؟ وكيف كان حراكه لمواجهتها؟ وأي تأثير ظهر له على الشارع الشعبي العام؟ والواقع يشير إلى غيابه، وما رأيناه كان مقتصراً على الإعلام وبعض الشخصيات القليلة، والسؤال.. أين طاقات اتحاد الكتاب العرب؟ ولماذا لم تزج بكاملها في المعركة خاصة الفروع المنتشرة في المحافظات؟ ما هي المهام التي قام بها المثقف البعثي والجبهوي ضمن مبادرات جماعية؟ ومن هنا ينبغي أن نطلق اقتراحاً للقيادات الأعلى بضرورة إعادة النظر في الأسلوب الذي كان متبعاً قديماً في المسألة الثقافية، وليس من المهم أن أرعى آلاف الشعراء للمديح والثناء، وحين الحاجة لا نسمع بقصيدة واحدة، وأن تقدم في المراكز الثقافية البرامج الأسبوعية من ندوات ومحاضرات وأمسيات ثم لا ذكر لها عندما يطلب أن تكون جماهيرية واسعة. الثقافة العفوية ما لفت نظرنا هو العمل الذي قامت به بعض النسوة في حي الصليبة، ودون أي توجيه، أو دعوة رسمية وسواها، كتبن البيان الذي استخلصن أفكاره من واقع ما يجري في بلادنا، وعبّرن عن موقفهن ورحْن يقمن بزيارات إلى البيوت ويحصلن على التواقيع، ويؤدين دورهن في التوعية المطلوبة، حصلن حتى الآن على أكثر من ألف توقيع، ولم يطلبن الإعلام للتحدث عنهن، وقد وجدن أن ما يقتضيه الواجب هو القيام بهذا العمل، وبالمقابل فإن مثل هذا التصرف الرائع يشير إلى أن المواطن السوري يتحمل مسؤوليته تجاه ما يجري والحفاظ على الوطن والمبادرة لا تحتاج للأمر الإداري، وعندما يتطلب الأمر ينبغي أن نتحول جميعنا إلى حراك وكل منّا يأخذ دوره كما يجده مناسباً تماماً كما فعل هؤلاء النسوة في بيانهن الذي سنورد نصه. نص البيان: “نداء من العقل والقلب نحن الموقعين أدناه مواطنون من أبناء محافظة اللاذقية نعلن أنه من أجل بلادنا التي نحب, نتعاهد بألاّ نلجأ للعنف تجاه بعضنا بعضاً على أية أرضية دينية أو مذهبية أو قومية أو حزبية, وألاّ ننجرّ مع أية جهة تحاول إثارة هذه النعرات فيما بيننا, وأن نواجهها بثقافة التسامح والحوار بأسلوب حضاري وسلمي, وأن نغلّب مصلحة الوطن وحرية المواطن على كل مصلحة أخرى كي نتركه لأجيالنا وطناً آمناً وموحداً شعباً وأرضاً. وعليه فإننا ندين كل ممارسة طائفية أو خطاب يحيل إليها, كما ندين العنف بكل أشكاله وأياً كان مصدره, ونشجب بقوة ونستنكر إراقة دماء السوريين, مشددين على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي. وأخيراً ونحن نترحّم على كل الشهداء من أبناء هذا الوطن, نعلن أننا سنقف صفاً واحداً ضد أي تدخل خارجي يمس بلادنا التي نريد لها أن تكون حرة مستقلة آمنة وديمقراطية. اللاذقية 20/6/ 2011 دور المثقف نجد أن هذا البيان الحار في مشاعره الوطنية، والنابع من مشاعر صادقة له قيمة اجتماعية كبيرة كونه خطاب المواطنة إلى أخرى دون رعاية أو ضجيج، ولا استعراض مفاده انظروا ما نفعل، وهو بالمقابل يدفعنا للاستغناء عن عشرات المحاضرات التي يمكن أن تلقى جمهورها الخاص بها ولا تدخل إلى تفاصيل الشارع والبيوت. وعن المثقف ودوره يجد السيد اسكندر ميا مدير الثقافة في اللاذقية إنه بسبب الفشل الأيديولوجي وعدم قدرة الأحزاب على تحقيق متطلبات وآمال الجماهير، وهي لم تقم بتطوير أفكارها وأساليبها حتى كوادرها مما جعلها في نظر الجماهير نظاماً رسمياً بهيكلية مسبقة الصنع لاقت نفوراً وردود فعل سلبية، علماً أن الوضع في سورية مختلف عن سواه كما في تونس ومصر واليمن، لاسيما من حيث الموقف الوطني والقومي المشرف لسورية ودعمها للقوى المناهضة للمشروع الإمبريالي الصهيوني، بدليل أن الحراك الموجود وقياساً بحجم المؤامرة الأمريكية الأوروبية العربية والتحريض الإعلامي غير المسبوق لا يمكن قياسه بحراك الدول التي ذكرناها لا بحجمه ولا نوعية متظاهريه، ولست مغالياً عندما أقول إن المستوى الثقافي الموجود في سورية، وإن لم يرق إلى المستوى الطموح، غير أنه يفوق سواه في معظم أقطار الوطن العربي - إن لم يكن جميعها- وقد أثبت الشعب السوري بمعظمه وعياً وتفهماً كبيراً لطبيعة الأحداث الحاصلة واستطاع التمييز بين مطالب إصلاحية من الضروري تحقيقها، وبين مخطط جهنمي يحاول النيل من وحدة الشعب ومواقفه، وخلاصة القول: إن مسألة الثقافة والتثقيف مسؤولية عامة رسمية وأهلية ومن الخطأ حصرها بوزارة خاصة في هذه الظروف ويجب أن تبدأ من الأسرة. إلى الحي. للمدرسة. لرجل الدين المستنير. للمراكز الثقافية. المنتديات الأهلية. للإعلام. للأدباء. ولرجال الفكر. على أن تبذل كافة الجهود للتوعية وشرح ما يحصل وخطورة المؤامرة. المجتمع الأهلي من الملاحظ غياب التجمعات الأهلية عن المبادرات الثقافية وحملات التوعية، وتم الاكتفاء كما ذكرنا بنشاط المنظمات الشعبية ضمن القالب الرسمي للدعوات، والرعاية، والخطابات الطنانة، وما جرى في سورية أن الكثير من الأغنيات قد لحنت وبثت، وهي تدعو للالتفاف حول الوطن، ورئيسه السيد الدكتور بشار الأسد، وإن المزيد من المساحات التلفازية قدمت شخصيات حللت وطرحت الأفكار، لكن ثقافة في الشارع العام لم تظهر، وحراكاً لمجتمع مدني لم يتميز بحضوره اللافت، وفي اللاذقية ثمة مبادرة طيبة قامت بها جمعية نادي أوغاريت الثقافي حيث قررت ملتقى الحوار الأهلي بمبادرة بعض الشبان الذين ينتمون إلى النادي المذكور، وكان الحوار الأول لهم بعنوان (إشكالية التربية المدنية ومشكلات الشباب) وسوف يتابع النادي نشاطه الحواري أسبوعياً وسيطرح عدة مواضيع في الاقتصاد والقضاء والإصلاح الإداري، وغيرها، وكان من المفترض أن يكون مثل هذا النشاط الحواري في كل الأحياء ومساحاتها العامة، وداخل البيوت، والأزقة، وأن يواكب الفعل التحاوري حركة الأحداث متصدياً لها ليس من جانب المطالب المحقة بل من الجانب التخريبي، والمؤامرة التي تستهدف الكل، ويجد السيد رضا شريقي مدير نادي أوغاريت الثقافي أن الثقافة هي تقويم القوى العقلية على طريق متوازية وأنها تهذب الشخصية الإنسانية والسير فيها إلى أقصى درجات الكمال الممكن، والمحن أحوج ما تكون المجتمعات فيها إلى مثقف يحمل قضاياها ويعبّر عنها تعبيراً مسؤولاً مدافعاً عن حقيقتها، ومن هنا انطلقنا في عملنا واتخذنا قراراً جماعياً بضرورة الحوار الأسبوعي والخروج منه بنتائج ومقترحات نقدمها للجهات المعنية، ونجده واجباً علينا أن نقوم بالعمل، من مفهوم إن لم تكن الثقافة بمعناها الحقيقي سلاماً يدافع عن مصلحة الشعب ورافعة تعلي شأن الوطن خاصة في أوقات الأزمات والمحن، فأهلاً بالجهالة التي تحافظ على علاقة اللسان كحد أدنى. نحن الآن نحن الآن نحتاج للثقافة الميدانية، لحملات التوعية في كل مكان، للمبادرات، للمواجهة، إلى أن تحسم المؤامرة وننتصر عليها، والمطلوب فيما بعد أن نعيد النظر بموضوع حراكنا الثقافي العام، وأن نطرح على أنفسنا السؤال الهام جداً ماذا قدمت الثقافة التي هدرنا عليها سابقاً الأموال الطائلة؟ وأقمنا لها المراكز ونشرناها في المدن والأرياف؟ هل كان عملها طوال هذه السنوات خلبياً؟ والمطلوب أيضاً إعادة النظر في أسلوب ثقافة الأحزاب وطرقها وماذا أعطت من مثقفين ومفكرين وأدباء وغيرهم.. كان على الثقافة أن ترتفع بدورها، وتؤكد حضورها، وتنزل إلى الجماهير تخاطبهم في كل مكان، وتنشر بينهم الوعي، فهي أيضاً لها الدور الأكبر إلى جانب الإعلام والفن.